|
|||
|
من أوصل حكايا اليمن إلى ((عزلة)) ماركيز؟ ((إب)).. قبضة لؤلؤ في واقع بائس المصدر: جريدة الخليج الإماراتية صنعاء-محمود ياسين: كن حذراً ولا تبالغ في الضغط على كوابح السيارة وإلا وقعت في الهوة السحيقة وانتهت حكايتك إلى حادث مؤسف يتكرر يومياً في ((نقيل سمارة)) الذي يشبه أمعاء بغل, من هنا تبدأ إب حيث الخضرة الهائلة وتداعياتها التي بدأت من قدرتها على إعادة توزيع الجغرافيا السكانية, وحكايات موجات الهجرة الداخلية من البحث عن ملاذ من غائلة الجوع وانتهاءً بصراع التكتلات القبلية الجديدة. أخيراً تجاوزنا اَخر منعطف في سمارة, أصبح عليك الاَن الخوض في أول أسرار إب ومفتاح استثنائيتها الذي اختصره علي ولد زايد بقوله: (إن كنت هارباً من الموت ما أحد من الموت ناجي, وإن كنت هارباً من الجوع اهرب إلى سحول ابن ناجي). وعلي ولد زايد هذا رجل لا يعرفه مؤرخ إن شئنا الدقة, إنه أكثر من شاعر شعبي وأقل من فيلسوف, كان يوماً ما يسكن قرية منكف أعلى سمارة, تعدد الرواة وتعددت حكم الرجولة وكلمات العشق لهذه الأرض لمئات الناس عبر مئات السنين, ولم يجدوا سوى علي ولد زايد متحدثاً رسمياً, أما سحول ابن ناجي فأمامك مباشرة: أحد أشهر أودية اليمن وحقول الذرة تنتج العملة الوحيدة التي بقيت متداولة إلى اليوم, يحمل الفلاح كيس الذرة ويستبدله بالملابس والغاز والملح, والماضي الجميل البسيط لا يزال ينافس العملة الورقية والريالات الهزيلة على استحياء.
على جانب الطريق كانت الخضرة الباذخة تفضي إلى سوق أحد أشهر أسواق الأيام في اليمن التي تبدأ من السبت وتنتهي بسوق الجمعة,ساحة مستطيلة تنتهي إلى مجموعة دكاكين صغيرة مضى عليها قرون من احتواء المقتنيات والحبوب والأجبان, ضجيج هائل وزحام تجاوزناه بصعوبة إلى المراباع( سوق الحيوانات). يتداخل ثغاء الخرفان بصراخ (القناطين) يعلنون اَخر سعر لهذا الثور المملح الذي يربت صاحبه على ظهره بأسى: اسمه محمد عبد العزيز جاء إلى سوق السبت لبيع ثوره بما قد يصلح لعلاج زوجته (هكذا قال) ومحمد عبد العزيز تجاوز العقد الخامس من عمره دون أن يفوته سوق سبت واحد, مضى تاركاً ثوره (زهير) يتلكأ خلف صاحبه الجديد, أقسم أنه كان يتلكأ وفي عينيه ذلك الحزن الحيواني الصامت والعميق في ضجيج سوق السبت, أما القناط, فوسيط حاذق يعدد مميزات الحيوان ببراعة مستعرضاً قدرات الثور على حرث نصف وادي في يوم, وبين القناطين لغة خاصة تشبه الرسائل المشفرة حتى لا يدرك البائع أو الشاري حقيقة الصفقة. كان الزحام أكثر من حزن الثيران, والبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة, وسقطت الكاميرا من يدي فاجتاحتني مشاعر تيس, من يمكنه انتزاع ذاكرة سوق السبت من ماضيها الذي لا يزال ينبض بحيوية فائقة, إنها ورطة تشبه ترديد الكلمات الجوفاء (لاحظ تكرار كلمة زحام وتفاصيلها) سوق السبت يعني اقتناء الأصلي( حمار القرش غالي وحمار المية رخيص), أشياء الفلاح وحكايا المكسب والخسارة ونكهة الجبن البلدي تتفوق على أشهر ماركات الجبن العالمية. يقولون سوق السبت فيتذكر الفلاح ثوره الوحيد ويحلم الأطفال بالعطوي رغم أنف الشوكولاتة, يقولون سوق السبت فيؤجل ((حميد ملهي)) خلافاته وينساب مع إغراء الزبيب على مدى نصف قرن. يقولون سوق السبت فتدفع الحوامل المدللات رجالهن لاقتناء (صلعة) جبن بلدي وإلا خرج المولود أعور, وفي مخرج السوق كان بني عنان يأخذون حقهم ممن باع ومن اشترى باعتبارهم أصحاب السوق, مردود أسبوعي دفعهم للاقتتال على جولات بدأت بسقوط الشيخ قاسم عنان وانتهت بمقتل الفتى نشوان, ولا يزالون على عادتهم ينهون خلافاتهم العائلية بالبنادق. لقد تحول فلاحو السحول من ((رعية)) إلى برجوازية صغيرة اجتذبت مقاوتة قدامى, وشذاذ اَفاق شنقوا الجندي على حافة الجسر الذي يردم ضفتي سائلة وادي الجنات, عصابة أفسدت معنى وادي السحول في الذاكرة الجمعية قتلوا المارة أو نهبوهم, ردوا الجنود بالنيران وانتهوا إلى عصابة منظمة كانت تقطن وادي الموت( إلى يمينك تماماً) حيث التلة الصغيرة تحتشد بالبنادق والتين الشوكي, وانتهت قصتهم إلى محكومين بالإعدام وذكرى سيئة.
حكايا العجائز: مع صعود السيارة في الطريق إلى مدينة إب كان وادي السحول بستحق التفاتة جديرة بدغل أصيل لم يكف عن كونه أخضر ومن الماضي الحكائي كانت الفتيات السبع يتيمات تركهن الأب إرضاء لزوجته الشريرة, هناك في مغارة جبل ((بعدان)) المطل على السحول ومن قلب المغارة كان ندائهن الأسطوري يتصاعد (أبه أبه كم لك تبول, أسقيت عنه ووادي السحول). بقيت الحكاية صالحة لمقاومة الملل لعجائز القرى المطلة على الوادي, قرى الشرف وعتيق والمرزوم وشعب يافع, حيث تميزت عجائزها بميراث الحكايات المسائية المرتبطة بنكهة المكان, السحول وتفاصيله وأشياؤه ومن ضمنها حكاية البقرة, وما أكثر بقر السحول المزركشات وحكاية البقرة لها ترجمتها الشعبية باسم (سمأة الديدة) فكل حكاية تعني سمأة وكل بقرة ديدة بالنسبة للأطفال على الأقل. وسمأة الديدة هذه حكاية منغصة من جهة طبيعة السرد إذ يبدأ أو تبدأ هكذا: أقول لك سمأة الديدة؟ فيجيب الطفل: أيوه..فيقول الحاكي: لمه تقول أيوه؟ وتستمر متوالية الإجابة عن السؤال بسؤال إلى أن ينفجر الطفل باكياً وتضحك الجدات بعد حصولهن على ما يبدد الملل. الأمر على قدر كبير من الجدية فحكاية البقرة (سمأة الديدة) على غرائبيتها المحلية تستحق كلاماً مملاً كهذا, فلقد ظهرت في الأدب الشعبي لبعض شعوب أمريكا اللاتينية والجنوبية, وضمنُها جارسيا ماركيز في رائعته (100 عام من العزلة) حيث يحاول سكان قرية ماكوندو مقاومة وباء السهر الممل بسرد الحكاية ذاتها على بعضهم حتى لا يقتلهم الملل, في مائة عام من العزلة ثمة إشارة إلى التجار العرب- فمن نقلها إلى الاَخر؟ وعلى نكهتها السحولية الفائقة يبدو أن الحكاية بترجمتها الحرفية قد هاجرت من أمسيات عجائز السحول إلى عجائز ماكوندو في أقاصي ريف كولومبيا. لقد كان ماركيز محقاً عندما قال عن واقعيته السحرية إنها الحرية والبساطة في الحكي وتصديق الخرافة التي أخذها عليه لويس بورخيس وقال متهكماً: ماركيز هذا ولد مشاغب يحفظ كل حكايا الجدات, ومع أقمشة التجار العرب التي كانت تبهر نساء ماكوندو, ثمة حكايا ديدة كانت مخبأة في ثنايا قماش سحولي, وتحولت الاَن إلى مجرد ذكرى عطرة, ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل موته بأيام أن يكفن ببردين سحوليين. إب الريحاني: بعد قليل ستطل على مدين إب مروراً برؤية بعيدة لشلال يسقط من شاهق ((بعدان)), لا تحاول , فهذا هو المكان الوحيد لرؤية شلال يستعصي على الإقتراب, وغير الحكايا ففي إب ما يبدد الملل على اعتبار أن المساء لم يحل فليس هناك ما هو أكثر ضجراً من مساء إب. عندما راَها أمين الريحاني بهره الهمس بين زحمة الدور وفتوة السنابل في وادي الظهار فقال: إب قبضة لؤلؤ على بساط أخضر, ولو راَها اليوم لاعتقد أنها بنطلون رث تخلص منه عامل طلاء باليومية. في طريقك إلى إب القديمة يجدر بك تجاهل زعقات الدراجات النارية أو البحث عما يدهش. أمامك خياران للصعود إلى إب القديمة كسائح من الدرجة الثانية تجتاز السلم الحجري مروراً ببقايا سمسرة الدشل التي ظلت وحتى قيام الثورة بناءً وحيداً يقبع خارج الأسوار, ويمكن اعتبار السمسرة معادلاً لما كان يعرف بالخان. بعد العشاء كانت إب تغلق أبوابها الرئيسية فلا يجد الغريب سوى سمسرة الدشل يجد فيها ملاذاً وعلفاً لحماره أو بغلته إن كان من علية القوم. الأسلوب أو الطريق الثاني هو الأكثر متعة على ظهر دراجة نارية خلف أحد الفتيان ورث المهنة عن أبيه في الغالب..لقد فشلت كل محاولات إدارة مرور المدينة لاختراع طريق للباصات التي تمر شبه فارغة إلا من المسنين جداً, إنهم يفضلون الموترات(الدراجات النارية) وبأجرة مضاعفة. يقول عازف العود الشهير في إب نبيل علوي: من يشوفك وأنت تركب باص؟, المتور حقك وحدك وبعدين ترفع يدك اليسرى لتحية الأصحاب, لدرجة أن الأستاذ محمد الربادي ظل وفياً له حتى أيام عضويته لمجلس النواب لذلك علق منافسه على الأمر قائلاً: ((الحكومة صرفت لأعضاء مجلس النواب 300 سيارة وموتر للربادي)). عندما مات الربادي بكته إب بحرارة جديرة بمناضل ومثقف قومي شريف رفض كل إغراءات وميزات نفاق السلطة وستجده عند عند اجتيازك باب الكبير صورة تذكارية بقبعته الخيزران الشهيرة إلى جوار عبد الناصر وبومدين وإبراهيم الحمدي. يستيقظ العزي ويفتح دكانه الصغير بنفض الأتربة المحتملة عما تبقى من رجال العروبة التي كانت تعني بالنسبة له حياة, لكأنهم ليسوا مجرد ذكرى في إطار, يمنح صورة عبد الناصر اهتمامه الأكبر وكأنه يصلح وضع ربطة عنق الرئيس قبل افتتاح مهرجان قومي. العزي يحاول إيقاظ ماضيه, كل صباح سيمر من أمامه راكبو دراجات نارية ومشاة لا يملون التحديق في عيون القادة, لطالما هتف العزي ضد الإمبريالية والرجعية و((إسرائيل)) والملكية وبقيت إب قومية لا تأبه للتحولات اقترعوا في أول انتخابات وحدوية لصالح الربادي الذي مات بعد فوزه بشهور, فنصبوا ابنه قليل الخبرة رغم أموال وضغوط السلطة وغير اَبهين للإسلاميين, لقد اقترعوا لصالح بقائهم. كان الشارع الضيق المرصوف بالأحجار يقود إلى قلب المدينة حيث السوق الأعلى والميدان, طريق ملسته الأحذية والإطارات, طريق يفضي إلى الستينات ولا شيء غير الستينات. ابتداءً من السلطة والكباب مروراً بصور أساطين القومية والخيار الانتخابي الوحيد وصوت العرب وأحمد سعيد يكرر بياناته على شريط مسجل, لا تتردد في دخول مطعم ابن عمر الذي يشبه مدخل سرداب. أنت الاَن أمام الجامع الكبير الذي أسسه عمر بن الخطاب وخطب على منبره كثيرون كان أشهرهم فقيه اشتراكي اسمه الربادي الذي خلفه رشيد الصباحي بعد عودته من الجهاد في أفغانستان, لم يتخل أبناء المدينة عن قوميتهم فانتخبوا رشيد لأنه متواضع ويدعو لمقاومة الظلم, انتخبوه ولم يتوقفوا عن اختراع النكات التي تسخر من الحزب الذي يمثله. هذه هي إب, ستينات الأحلام والمفارقات والمزحة المأساوية, مغاطس الجامع الكبير تحتشد بهجمات الكهول وفوضى الماء الذي يخلصهم من الظهيرة والقيظ. |
- |